


أصابع متطابقة
ركن الاسرة - ركن الاسرة |
حاملة رسالة النادمين..اعترفت" هند"...كانت مجازفة كبيرة منها أن تفتح لنا قلبها المغلق فتحكى عن أسرار دفنتها طويلاً ولم تشأ الإفصاح عنها فى أى مناسبة ..وهند هذه هى إحدى زميلاتى فى العمل وهى انسانة على قدر عال من الخلق والإلتزام..أرملة فى حدود الثامنة والثلاثين من عمرها ..توفى زوجها منذ ما يقرب من سبع سنوات تاركاً إياها بصحبة أبنائها " مريم ومعاذ " اللذين هم كل حياتها اليوم.
كانت جلسة نسائية خفيفة جمعتنا بالصدفة فى مرة من تلك المرات التى نستريح فيها قليلاً من عناء العمل... وكنا نتجاذب أطراف الحديث عن الأزواج وأفعال الرجال ، وكانت من بين الجالسات "مى" زميلتنا الشابة الحديثة العهد بالزواج والتى أخذت تسرد بعض مشكلاتها الزوجية...مشكلات العام الأول للزواج وصدمة اكتشاف كل من الطرفين لحقيقة الآخر دون زيف أو تمثيل..الأمر الذى استفز "هند" أخيراً كى تخرج عن صمتها الحزين وتتحدث ...ربما أرادت أن تنقل "لمى" حصاد خبرتها الزوجية ..ستظل تأخذنا الحياة لأعماقها...
وجدت فى كلام "هند" الكثير من العظة التى قد تفوتنا نحن معشر الزوجات فى خضم انشغالنا فى تربية الأبناء وفى العمل...أشياء بسيطة قد نتجاهلها ولكنها عميقة ومؤثرة ويكون لها مفعول السحر...سمعت كلامها بأذنى وصدقه قلبى ...وددت أن أنقل لكم أعترافاتها ..ربما أفادتكم مثلما فعلت معى...
"لازلت أتذكر جثة زوجى مسجاة أمام ناظرى لا تفارق سبحات خيالى..وأنا منهارة تماماً ...تارة أبكى بصمت خجول يلفه الذنب...وتغلفه راحة الندم ...وتارة تردد الجدران صدى صرخاتى التى أضرب رأسى بها كلما تذكرت غرورى وكبريائى...نظرت الى جسده النائم فى لحظات صمت موحشة فأرى ملامحه كأنها حية تتحرك..تتماوج الجثة فى عيونى بتماوج الدمع الهاطل جمراً على وجنتى...لم يحب أحداً زوجته مثلما أحبنى زوجى وفضلنى حتى على أقرب الناس له...وأنا الأخرى أحببته منذ أن التقينا لأول مرة....لا أعرف حقيقة ما الذى جرى لى فيما بعد...ولما تغيرت وقد جرت العادة على أن يتغير الرجل وتظل المرأة على العهد...بينما ما حدث معى هو العكس تماماً..صرت أكثر عصبية...أقل اهتماماً بحبه ورغباته ومتطلباته..ونفسى...هل بسبب الإنجاب؟؟ هل بسبب الأولاد الذين يستنفذون طاقتنا فى عملية تربيتهم؟؟ لا أدر ... فبرغم كل هذه المستجدات التى هلت على حياتنا ظل زوجى يلفنى بحبه..فى حين أننى تحولت تماماً عنه...ربما هى ثقافة كل منا التى تختلف عن الآخر..نظرتنا للحياة نفسها...هو كان يحسن الإستمتاع بالحياة..بدءاً من عمله وما يقابله من مشكلات وحتى طريقته فى تناول الطعام ...كان يمضغ على مهل وكأنما يريد أن يستمتع بكل ما تهبه اياه الحياة..فى حين أننى كنت الآخر العملى المادى الوقتى؟؟؟!
قسوت عليه وبخلت بالكلمة الطيبة وقت أن كان ينتظرها منى على أحر من الجمر..والمصيبة أننى كنت أشعر وأدرك الفارق بيننا ومع ذلك أعرضت عن التغيير..حتى نظراته كنت أختبأ منها بين الأوانى والشراشف ..ربما السبب يعود الى ظروف النشأة الأولى.. ...كنت متعبة نعم ..أعترف...فمسئوليات المرأة المعاصرة تنهكها تماماً وتجعلها على آخر الليل أشبه برأس المنفضة الأشعس...
وبرغم كل هذه المبررات كنت أنانية ...فهو الآخر كان يعمل..ومن المعروف أن الرجل يقع عليه العبأ الأكبر فى تحمل مسئولية الأسرة على الأقل المادية..ومع ذلك كان هادئاً مستمتعاً...هل رأيتم زوج كهذا من قبل؟..
كانت الدموع تنهمر من عينى "هند" فى ألم والحقيقة كنا متعجبات مما ترويه..كأنها كانت تحك عن شىء خيالى...أى زوج هذا؟..
استطردت فى صوت متحشرج..مات زوجى ..مات بعد أن أعطيت أنا له ظهرى..مات قبل أن يعطينى الفرصة كى أحقق له أى شىء مما كان يتمناه..آه لو لى بيوم آخر معه!..آه لو يعود ولو للحظة واحدة أعبر له فيها عن أسفى وندمى وأغمره من فيض حبى وحنانى..!
صمتت "هند" ثم غمغمت بصوت يملئه البكاء...أستكثرت عليه حتى كلمة شكراً عندما كان يعود الىّ متعب ومنهك من عمله حاملاً فى يديه أكياس الفاكهة والخضروات...أستكثرت عليه حتى أن أقابله على الباب كى أحمل عنه بعض هذه الأحمال..لماذا كنت أبدو مستكبرة حمقاء غير عابئة..ألأنه كان محباً طيباً؟؟ لا أعرف..!!!
لماذا كنت أتعمد تجاهله؟وماذا كنت أحاول أن أثبت لنفسى؟؟
أعترف أننى ضيعت لحظات حب وسلام من بين يدى هباءً...كانت تغضبه ردودى أحياناً وتحيله إلى تعاسة لم أكن أستشعرها بصلفى وكبريائى...
كنت أجلس مطأطأة الرأس ألملم شتات ذاكرتى الموزعة بين صوره فى مختلف المناسبات التى مرت علينا..كنت أطابق أصابعى فوق أصابعه المرسومة ..وكأننى أستجدى محاولة أخيرة للحاق به والصفح عنى...
كان بمقدورى أن أدير حياتى بسعادة ولكننى لم أفعل وبمقدور كل زوجة أن تفعل..ليتكم تفعلون قبل أن تضيع الفرصة من بين أياديكم أيها الزوجات..صدقونى بمقدوركم أن تجعلو السعادة مقيمة فى بيوتكم بالحب والتعاون والكلمة الطيبة التى لن تكلفنا الكثير..لماذ نستكبر ونستأثر بمشاعرنا لنا وحدنا ..لماذا نجعل الأنانية تفسد علينا بهجتنا وحياتنا؟لماذا لا نتصارح بمشاعرنا الحلوة حتى نسعد أنفسنا؟
صدقونى الرجل طفل كبير...كل رجل هو طفل كبير ..طيب..يمكن كسب وده بالكلمة الطيبة والفعل الصادق..لا تفعلى مثلى يا صديقتى حتى لا تجلسى مثل جلستى هذه وحيده تتجرعى كأس الندم..افهمى زوجك وطوعيه..تقربى منه..أعطيه من وقتك ومجهودك..كونى له أمة يكن لك عبداً..رغباته تستحق منك التقدير..لا تكونى أنانية بإصرارك على ما تريدين وتقررين دون تدارس رغباته هو الآخر وقراراته..لا تجعلى العند والندية يفسدون عليك حياتك ..لا تنسيه فى زحمة العمل والمشغوليات فالرجل يحتاج دائماً إلى الزوجة الحنونة الهادئة العاقلة..فالزوجة بيديها كل مقاليد السعادة خاصة عندما يكون زوجها طيباً محباً..
انتهت كلمات هند تاركة ايانا فى حالة من الهيام والتأثر ...كلنا بالتأكيد فى تلك اللحظة تذكرنا أفعالنا وأقوالنا ..كلنا لحظتها حاولنا مراجعة النفس والوقوف على مناطق القصور..كانت قصة حقيقية جداً نسجها خيال الواقع وضاهت خيال أمهر الكتاب فى واقعيتها وصدقها..
تأملت حالنا نحن البشر ...يالنا من جاحدين أحياناً..لا ندرك ما بين أيدينا من نعمة..يالنا من مغرورين ..يخيل لنا أحياناً أننا نمسك بأيدينا زمام كل الأمور ونكتشف فى النهاية أننا قبضنا على الهواء..على الوهم والعذاب والشقاء...
أحياناً بل غالباً لا يكون للحب أى قيمة برغم وجوده المتفشى داخلنا إذا لم نحسن التعبير عنه..وأطلقناه من الحيز الضيق المظلم الأنانى داخلنا إلى عالم أرحب وأوسع وأسطع..لماذا تربينا فى مجتمعنا على عدم الإعتراف بالعاطفة الإنسانية وخاصة الحب؟ لماذا تضن المرأة بنطق كلمة "أحبك " لزوجها وحبيبها؟؟ ولماذا يفعلها أيضاً الرجل؟..لماذا شببنا على أن هذه الكلمة هى سبب أى ضعف وأنها قد تعطى فرصة للآخر لكى يبتز عواطفنا ويذلنا؟...
نركن إلى حجج وأوهام تحمل فى طياتها مغالطات تتسربل ثوباً فضفاضاً يمزق فى النهاية بقسوة..هى ظلمة...ظلمة الغفلة عن حقيقة الحياة الجميلة برغم أوجاعها..ومن أروع جماليات الحياة هو الحب...ما أشقانا حينما نغفل عن حقيقته؟..تلك العاطفة التى تفتح الأبواب الموصدة وتنير العقول النائمة..ويفيض بما يفيض به من نور يبدد وحشة الظلام الذى آثر الكثيرون على البقاء فيه..إنه الحب الذى يمدنا بأسباب السعادة ويسدل الستار على الكبر والضغائن...
تأخرت هند ...تأخرت عن جلو قلبها من صدأ أوهام الإنشغال والأنانية والإستعلاء..حبها له كان سيختصر المسافات...يطوى البعد الكائن بين المحسوس به والمسكوت عنه....
أواه...